هذا ليس هجاء لباريس!


هو اكتشاف يُعاش على درجات، لا يزال حدثاً يومياً يبحث عن ما يشبع العين، عن فكرة تستفز. أحيانا تتفاقم الحاجة إلى الاكتشاف، إلى درجة تجعلك تخرج من نفسك، فتراك من فوق، تهيم بحثا عن خارطة بديلة للمدينة. تسأل عن أحياء تُخرج التنين والنار والملائكة والشياطين من قلب لوحات معروضة، عن علب ليل لم تزرها، عن أسماء شوارع ارتبطت بفتيات ليل لعوبات، وأحيانا عن تقاطعات تذهب بك إلى مجاري المدينة! تنتبه إلى شبان أسفل بيتك يبيعون بعضهم حبوبا تأخذ من يبتلعها في رحلات إلى الضوء واللاوقت.
عندما تراك من فوق في باريس، تدرك أنك تبحث عن شعورك نفسه. عن إحساس ما يتحدى خدرا مقبلا، يحقنه دوما شتاء المدينة الآتي لا محالة، في أعصاب أناسها.
هكذا، عندما أدركت أن باريس باتت تشبه رغبة مؤجلة في رأسي، اجتاحتني رغبة بالقفز إليها. فجأة أعدت النظر إلى كل ما حولي بعين السائح لا عين القاطن. والفارق بين الإثنين كبير. الأول تنبت له عينان إضافيتان، وزوج أقدام آخر عندما يتعب. انقلاب أوراق الروزنامة يذكره بنبوءة ضيق الوقت واقتراب ساعة الرحيل عن زواريب المدينة. ما يجعل الرغبة ملحة أكثر في اختراق السراديب هذه..واختبار الحواس وتجربة الأفكار.
أما القاطن هنا، فيغرق مع الجحافل الخارجة من "المترو"، يتعلم كيف يستنشق صباحاً روائح معجون الحلاقة والأسنان والعطور الفاخرة، ممزوجة برائحة عرق المستعطين والمخمورين والمشردين. تطمره أوراق المعاملات الرسمية. تلك التي يخبرونك فيها، أن ورقة تعتقدها انت تافهة، كالتي تفصّل قيمة مرتبك، هي مفتاح ضمان الآخرة بالنسبة إليك. وانه عليك أن تحتفظ بكل ورقة يعطونك إياها نهاية كل شهر حتى نهاية عمرك. لم المبالغة؟ حتى عمر الرابعة أو الخامسة والستين فقط. موعد التقاعد المفترض!
القاطن هنا، يعلم أن نظره سينهزم قريبا في مقارعة مملة مع طبقات الغيوم المتراصة.
باريس التي أكتشفها، وغيري مستمر في اكتشافها، على مدى سنوات، لا تزال بالنسبة إلي مدينة جدية. تشبه تلميذة لم تتأخر يوماً على صفها. عاشت كما ينبغي للصبا أن يعاش. كبرت. بقيت رائعة الجمال. رائعة لكتها، بكل بساطة، لم تعد قادرة على المجازفة في كل ما قد يحمل إليها منافسة مع مدن أكثر فتوة وحيوية وهيبّية.
قل هو تراكم الخبرة، أو النظام الذي يجعلها هكذا، لكن بالنسبة إلى من عاش طويلا في مدينة بيروت العصية على التصنيف، يظن لوهلة أن شدة القوننة تهمد العصب الشاب، وأن "النظام الباريسي" يستطيع أن يصيب المرء بعدوى الاستكانة!
مع باريس، توقع أن تتعثر دوما بتمثال أو لوحة أو تصميم يحيي مجدا غابرا، لكن الاصرار على التذكير بالماضي، يجعل اللقية أحيانا، مرادفا للاعتراف بأن هناك ما لم تعد المدينة قادرة على اللحاق به، أن ثقل الماضي ورزانته لم يعودا يسمحا لها بالهيام بخفة كما تفعل نيويورك مثلا. هي مدينة حداثية لكن برزانة مفرطة، وأحيانا تبدو في معركة خاسرة مع النبض الشاب. لذا تتصرف كمن تحاول أن تدير وجوه الجميع عن اليوم، عن طريق إبقاء إبهامها دالا على أشياء في الأمس. أشياء كثيرة لا تنتهي. والماضي المستمر يخلق وهما بالحاضر. وبما أنها باريس، صاحبة أذكى الطرق وأدهاها، فإنها تستطيع أن تسرق شهقات كثيرة منك. أن تحوِّل نظرك اليوم، عن مثقفيها وعن سائقي التاكسي والمهاجرين والغاضبين منها والخائفين عليها، إلى واقعها المستمد من الأمس.
هي تعلم أن تاريخها لها وحدها، تقبض عليه بلا منازع. أحيانا، يخيل إلي أنها ليست بحاجة حتى أن تقبض على شيء، ولا حتى أن تؤتي بحركة، كأن تضم أصابعها أو تشد على ما في كفّها. التاريخ يستكين لحنان مدينة-امرأة مثلها، هو ينشدها، يرجوها أن تتبناه وتدعه يتكوم كجنين في حضنها. وهي تسع لكثيرين، وتتحول في كل لحظة، وبسخاء كبير، إلى متحف مفتوح دائما.
ليس هجاء لباريس اليوم أن يعاتبها المرء على خيبة أمل مقارنة مع صورة صنعتها كتب وأسماء سحرتنا في الماضي. لكن ما يفرحني أني أدرك أن امرأة كهذه، خبرت ما خبرت، تخبئ في جوفها مفاجأت كثيرة، وتستطيع في كل لحظة أن ترمي أولادها بوجه الجميع، أن تخرجهم من تلك الأمكنة المخبأة عميقا في رحمها لتجعلني، وغيري، أندم على "اتهاماتي" لها.
بأية حال، سأبحث أنا عن أطفالها هؤلاء. وبعض الاكتشافات ستجد طريقها إلى المدونة هذه.

 

Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
4 Comments
أبكتني مدونتك سيدتي... وحرقتني "فرشات" قلب المعلق... أما طريق الوصول إلى أنفاقك فلم يكن أمرا صعبا... فباريس أدرى بشعابها... ولو أنها تناست وجودها على خريطتها... إنها تحاول المحو... لربما ذاكرة قلبها لم تعد قادرة لتتخذ كبسولة الماضي... فدموعها تحجرت... وآلامها تقمصت... وحصونها قهرت... وقلبها طعن بخنجر الخيانة... قد تكون "ترمي أولادها بوجه الجميع"... وأصبحت "غريبة عنهم أم غرباء عنها"... كل ما تجرفه من ذكرى؟ ... لا أدري... ربما لم تعد تحتفظ داخل جعبة فؤادها بمفاتيح القلب... لقد غابت في الزحام... لم تعد تحب استقبال "الشمس"... باريس سيدتي هجرت باريس... إنها في طور المحو...
ربما يأخذك قطار الأنفاق في جوفها أو على أصابعها ليخترق مخيلتك إحساسا بالنشوة، اذا ما اطلت شمس الصباح عليك بخيوطها المتراكضة خلف برجها.. لتسرقك من أنفاسك، من كتاب لك بين يديك، وحتى من آهات الزمان الذي حط بك هنا. بعيدا عن تلك التي تكور صدرها بك، وفاضت بك واكتسبت بك حلما تتعكز به على إجحاف الزمان. كعبد هجر سيدته.. دقائق معدودة تجعلك، عاشقا تارة وهائما تارة، ورومانسيا وشاعرا ينتفض قلمك على بيضاء تحفرها الكلمات. أما السنين التي ازدادت به هذه المرأة باريس من عمري وعمرك وعمره، تطيل بسنها، فهي شابة رشيقة مفعمة الجمال بأعين صبيانها. بلغ عمرها مئات السنين وما زالت تشرب الكؤوس بأعمار أبنائها. فكل من أتى إليها تتبناه، وكل يجد له سبيلا ليرتوي منها. وتلك جدرانها تزدحم بانشقاق أجيالها عن أفكارها، وتلك الالتواءات أو الجحور أو العتبات تعج بما أجهضت، والجسور الشامخة استقامت على من سقط عنها، مخمورا أو مهجورا، يبيت تحت الأقدام مستدفئا نبيذها. وتطل عليك الحسناوات بأفواه مليئة بالحب المسلّح، فلونك جميل، لكن الأمن والأمان بحزب يميني أو متطرف. التطرف هو سرقة الخبز من أفواه أحفادها. باريس، كم خلتك حبيبتي أو خلت حبيبتي فيك. وما زالت صرخات سوطك ترنو في هاجسي. كبرت لكنك ما زلت تبيعين العشق والالتحام في زواياك. وتستبيحين الهويات والأسماء والألوان والأوراق والرضّع.. فلم الألوان يا سيدتي وفيكِ من التواضع ما فيكِ.. ومن الناخبين من فيكِ.. ومن المرحبين على أبوابك كفرق فلكلورية، تزف ضيوفها لكن بصمت. أغريبة أنت عن فلذاتك؟ أم هم غرباء عنك؟. فمن شرب مياهها، صارت بدمه، ومن داس زقاقا تدفأ به، ومن زار شجرة أطعمته. فما الإبن إلا من أحسن لامرأة عطفت عليه، فأرضعته فبّر بها وابتسم لها، وراحت فراشات قلبه ترقص لها.
جميلة جداً خاصة واقع أننا بحاجة للنظر إلى باريس بعيون السياح بين الفينة والأخرى لنحبها من جديد
مدونة جميلة للغاية

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.