دموازيل يا مدام؟

لا أذكر عدد المرات التي اشتكت فيها صديقات لي من أسئلة بائعي الخضار وحشريتهم الفائقة. فبحكم "التسهيلات" التي تقدمها مهنة بائعي الخضار لأصحابها، لجهة التماس المباشر مع زبائنهم والأريحية التي يتعاطون فيها معهم، ولأن زبونهم في حاجة إليهم ويعرف ذلك، ويحتاج إلى نصيحتهم حتى لو كان يعلم ماذا يريد، يصبح تجنب غضبهم حكمة. فغالبا ما يعني حنقهم مفاجأة غير سارة عندما تصل إلى بيتك، فتكتشف مثلا أنك اشتريت ما لا طعم له، وأن من باعك كان يستطيع أن يجنبَّ حاسة الذوق لديك خيبة أمل مدوية، لكنه لم يفعل. ولهذا ربما، يتحول بائع الخضار بسهولة فائقة إلى كبش فداء، ويصبح سهلا القول إن بعض بائعي الخضار نموذج بألف التعريف، لمن يستطيع إفساد جهد يتمثل بدعوة غذاء تحضر لها منذ أسابيع بثانية واحدة، ولمن يملكون حشرية فائقة تحثهم على التفتيش عن أصلك وفصلك وعنوانك وأهلك وجيرانك، ماذا تعمل وأين تعمل، في ظرف أقل خمس دقائق.

الأكيد ان "الرحلة" باتجاه بائع الخضار في بيروت، تصبح أحيانا كثيرة مناسبة عجيبة للتأمل في المهارة الفائقة التي يملكها بعض هؤلاء، في محاولة دفعك إلى البوح بمعلومات تكفي لملء استمارة كاملة عنك، دائما بحجة مساعدتك على انتقاء أفضل "البضاعة" وأنظفها. فالسؤال عن كيلو التفاح، مثلاً، يتبعه بكل طبيعية سؤال "مين وين الصبية؟، هيدا تفاح كفرسلوان، بتعرفي كفرسلوان، قريبة منكم؟؟"، والانتقال إلى الليمون، مثلا،  يصاحبه استطراد يستدعي المزيد من الشرح: "آه دخلك بتعرفي فلانة، هي ساكنة بالحي عندكم، هي كمان بتشتري ليمون أفندي صنف أول، وحياتك، صنف أول"، وبالوصول إلى الخضراوات يكون طبعا السؤال المحوري قد طرح "ما اسم والدك؟ الأهل معودين يشتروا أحلى خضرة، جيلكم مش دايما بيعرف ينقّي!". أما المساعدة على اختيار كيس البصل، فتأتي مع سؤال  تقليدي في القاموس اللبناني، يستنتج من الانتماء المناطقي آخر ديني ويخلط الاثنين معا بطبق التبولة الشهير: "مين أي منطقة حضرتِك؟ بتعرفي هيدا البصل بيحبوه أهل الجنوب!"، ولمن يعرف لبنان جيدا يعلم ان غالبية الجنوبيين هم من الشيعة، والربط بين البصل والمذهب على ورقة الهوية مهارة لا يملكها أي كان!. أما ختام رحلة التسوق، سواء كانت مع "راسين ثوم" أو بطيخة أو موز بلدي أصيل، فغالبا ما يصاحبها سؤال – قنبلة، هو آية في الاعجاز والبحث والتمحيص والتدقيق: "حضرتك مدام أم دوموازيل؟!!!".
"مدام ام دوموازيل"، هو بيت القصيد إذا، تبذل من أجله أطول المقدمات وأعتاها، سؤال دارج في الكثير من بلادنا العربية، يحول طارحه للوهلة الاولى إلى خطّاب، يزود العازبين بأسماء العازبات، إذ غالبا ما يقصد منه الاستيضاح ان كانت الصبية متزوجة أم لا، أو بتعبير صاحبنا بائع الخضار ، إن كانت "تحت نصيبها" أم "لقت ابن الحلال؟".
المهم ان مشهد بائع الخضار الذي يستوهيه سؤال "دوموازيل أم مدام"، عاد بقوة  وأنا أكتشف مشروع الاستمارة الإدارية الفرنسية الجديدة. ففي شباط فبراير المنصرم، قررت السلطات الفرنسية حذف الخانة التي تسأل المرأة -اثناء طلب وثيقة رسمية- إن كانت "دوموازيل" (آنسة أو عزباء) أم "مادام"(سيدة متزوجة) . بالنسبة إلى القانون الفرنسي لا فضل للمدام على الديموازيل، والعكس صحيح!  نقطة استغلتها الجمعيات النسوية الفرنسية للعمل على إلغاء خانة "مادوموازيل" من المعاملات الادارية الرسمية. هكذا ربحت جمعيات مثل les chiennes de garde
و Oser le féminisme  ما يعتبرونها معركة في حربهم ضد التمييز الذي تتعرض له النساء  في فرنسا. المعركة الطويلة بدأت عام 1972 وانتهت منذ أسابيع فقط، مع تأكيد ان خانة "مادوموازيل" باتت خانة فائضة عن الحاجة في المعاملات الرسمية الفرنسية. 

وما أصبح خانة فائضة في المعاملات الادارية الفرنسية، يتضارب مع "حاجة" سائدة في بيروت والعديد من العواصم العربية: مفهوم "الدوموازيل"، الذي أدخل مع الانتداب والاستعمار، مرتبط  ليس فقط بعمر المرأة بل أيضا بخصوبتها،  وحتى أن تسمية كهذه  تستطيع أن تجتاح أحيانا كثيرة، بلا استئذان، مساحة خاصة جدا وحميمية عند كل امرأة، لأن البعض يستعملها "للاستقصاء" المبطن عن عذرية صاحبتها، وليس فقط عن مدى "توافرها" للزواج. وكم هي كثيرة المرات التي سحبت فيها تسمية "دموازيل" من امرأة مطلقة لأنها "مدام" بحكم زواجها السابق، وكم هي عديدة المرات التي أعيد فيها الاعتذار عشرات المرات من "ديموازيل" بعد مناداتها بـ"مدام" خطأ، اعتذارات تأتي بصيغة من يحاول التكفير عن ذنب ارتكب بحق شرف العائلة. كل هذا، يجعل سذاجة سؤال "مدام أم ديموازيل" بساطة مفخخة.
رحلة وضع الفوارق بين "المدام" و"الديموازيل"، تبدأ بحسب القاموس الفرنسي قبل الثورة الفرنسية. كلمتا "مدام" و"مادوموازيل" كانتا تستعملان للاشارة إلى النساء من طبقة النبلاء.  كانت كلمة "مدام"، تشير إلى الدائرة الضيقة من النساء القريبات من الملك، تحديدا أخواته وبناته. أما "مادوموازيل" فكانت  تستعمل بدورها لمخاطبة نساء الطبقة العليا من المجتمع.
لكن كل شيء تغير ابتداء من عام 1789، حتى باتت "مادوموازيل" عمليا مرادفا لكلمة عزباء، بمعنى أنك يا مادوموازيل مشروع مادام. مشروع زوجة. هذا لا يلغي ان  السيدة المتزوجة، او "المدام" كانت محرومة لسنوات من ممارسة حقوق بسيطة كفتح حساب في المصرف باسمها بلا إذن زوجها، أو الحصول على وثيقة سفر بلا موافقته. بهذا المعنى، المدام  لا وجود منفصلا لها عن الرجل، "المدام" تذكير إداري بضرورة حصولها على رضا زوجها. لذا، كانت هناك أصوات تؤكد ان كلمة "مادوموازيل" تحمل في طياتها مضامين أكثر حرية، هذا عدا  أن التاريخ الفرنسي يحفل  بـ"آنسات" شكلن نموذجا ورمزا لتحرر المرأة، ويكفي تذكر "الدوموازيل" كوكو شانيل لإسقاط الكثير من الأحكام في هذا الإطار.
لكن لا يبدو ان حالة شانيل وغيرها، نجحت في منع  قلب الامور لاحقا. تصاعد غضب الجمعيات النسوية في فرنسا مع زيادةالفروقات بين "المدام" و"الديموازيل"، ورائدات الجمعيات تلك يعتبرن ان "مادوموازيل" باتت تختزن نظرة دونية إلى النساء غير المتزوجات، على اعتبار انهن لم يكتملن ولن يصبحن كيانا قائما بحد ذاته بلا رجل أو بلا أن يصبحن أمهات.  كما ان أكثر من "دموازيل" اشتكت من تمييز بحقها في سوق العمل، بسب رغبة الشركات بانتقاء "المدام" المتقدمة نسبيا في العمر لتجنب توظيف امرأة ستحتاج لاحقا إلى أخذ عطلة الأمومة، وعطلة للزواج  وغيرها.

بطبيعة الحال، في مقابل من طالبن بحذف كلمة "مادوموازيل" هناك من تمسكن بها. هكذا اندلعت مواجهة كلامية  على المواقع الاجتماعية بين من يعتبرن ان لا إهانة على الاطلاق في كلمة "دوموازيل"، وبين من يرين فيها تحببا خبيثا! الفئة الأخيرة استغلت دفاع بعض النساء عن التسمية لتؤكد ان كلمة "دوموازيل" باتت رديفا لتطمين النساء  انهن لا يزلن "يانعات" في نظر الآخر، وانها تستخدم احيانا  ليؤكد الرجال للنساء انهن لا يزلن موضع اهتمام وحتى رغبة جنسية، لكن كل هذا بالنسبة إلى من استطعن حذف خانة "مادوموازيل" من المعاملات الرسمية الفرنسية، ليس سوى إعادة انتاج لمفاهيم ذكورية، تجعل من النساء أشياء قد تنتهي صلاحيتها، أدوات جنسية فحسب.

لا تزال الشركات في فرنسا، تملك حرية اختيار التسمية التي تراها ملائمة للنساء اللواتي يعملن فيها، أن توزعهن بين "مادام" و"دوموازيل"، لكن المؤسسات الرسمية لم يعد لديها مكان إلا "للمادامات"!. مع كل هذا، تعترف المحبات لل"دموازيل" والكارهات لها في آن، ان المعركة الحقيقية  لمواجهة الاجحاف في حق المرأة الفرنسية لا يتعلق بكيفية تسميتها في الدوائر الرسمية، بل بأمور أكثر جوهرية، كالفوارق في الرواتب بين الرجل والمرأة في بلد يشدد على أنه يحاول أن يعطي النساء حقهن في مختلف الميادين، وعطلة الأمومة وقيمة التقاعد للنساء وغيرها.
مادوموازيل أم مدام، لا فرق، لكن الأكيد أن الأمر يستحق زيارة لبائع الخضار في بيروت. ربما لا لشيء، إلا لانتظار لحظة السؤال المفخخ إياه "دوموازيل أم مدام؟"، لإبراز وثيقة رسمية تخبره بحجم الخلط المزمن الذي يرتكبه، وتجعله ربما يفتح عينيه على وسعهما متفاجئا ومعلقاً: "بحياة الله، كيف دموازيل يا مدام؟"

Comments or opinions expressed on this blog are those of the individual contributors only, and do not necessarily represent the views of FRANCE 24. The content on this blog is provided on an "as-is" basis. FRANCE 24 is not liable for any damages whatsoever arising out of the content or use of this blog.
1 Comments
J'ai adoré! BRAVO BRAVO BRAVO Merci Mayssa :) Salamat Abir

Post new comment

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.
  • No HTML tags allowed

More information about formatting options

CAPTCHA
This question is for testing whether you are a human visitor and to prevent automated spam submissions.